فصل: فَصْلٌ: (تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

قَوْلُهُ: وَيُوجَدُ بِتَبْصِيرِ الْحَقِّ، وُجُوبُ الشَّيْءِ شَرْعًا لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ حِسًّا، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ مَا يُوجَدُ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَجِبُ بِهِ، وَهُوَ تَبْصِيرُ الْحَقِّ تَعَالَى، وَمُرَادُهُ: التَّبْصِيرُ التَّامُّ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ عَنْهُ الْهِدَايَةُ، وَإِلَّا فَقَدْ يُبْصِرُ الْعَبْدُ الْحَقَّ وَلَا تُوجَدُ مِنْهُ الْهِدَايَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فَهُوَ- سُبْحَانَهُ- بَصَّرَهُمْ، فَآثَرُوا الضَّلَالَ عَلَى الْهُدَى، وَقَالَ تَعَالَى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} وقال تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وقال تَعَالَى عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} فَهَذَا التَّبْصِيرُ لَمْ يُوجِبْ وُجُودَ الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرِدْ وُجُودَهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُودَ مُجَرَّدِ الْبَصِيرَةِ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وَأَمَّا التَّبْصِيرُ التَّامُّ: فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ إِيَّاهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} وقال تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَعَمَّ بِدَعْوَتِهِ الْبَيَانَ وَالدَّلَالَةَ، وَخَصَّ بِهِدَايَتِهِ التَّوْفِيقَ وَالْإِلْهَامَ، فَلَوْ قَالَ الشَّيْخُ: وَيُوجَدُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ بَعْدَ تَبْصِيرِهِ، لَكَانَ أَحْسَنَ، وَلَعَلَّهُ هُوَ مُرَادُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:

قَوْلُهُ: وَيَنْمُو عَلَى مُشَاهَدَةِ الشَّوَاهِدِ وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِجَابَةُ لِدَاعِي الْحَقِّ، فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ مُشَاهَدَةِ الشَّوَاهِدِ فِي نُمُوِّهِ {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} يَمُرُّ عَلَيْهَا الْعَبْدُ وَلَا يَنْمُو بِهَا وَلَا يَزِيدُ، بَلْ يَنْقُصُ إِيمَانُهُ وَتَوْحِيدُهُ، فَإِذَا أَجَابَ الدَّاعِي وَتَبَصَّرَ فِي الشَّوَاهِدِ نَمَا تَوْحِيدُهُ، وَقَوِيَ إِيمَانُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وقال تَعَالَى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} وقال تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}.
وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُ الشَّيْخِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ: أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ يَنْمُوَانِ وَيَتَزَايَدَانِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِي فَارَقُوا بِهِ الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُرْجِئَةَ.

.فَصْلٌ: [تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ]:

قَالَ: وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الثَّانِي، الَّذِي يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ: فَهُوَ تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَالصُّعُودُ عَنْ مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ، وَعَنِ التَّعَلُّقِ بِالشَّوَاهِدِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي التَّوَكُّلِ سَبَبًا، وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةً، فَيَكُونُ مُشَاهِدًا سَبْقَ الْحَقِّ بِحُكْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَوَضْعِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا وَتَعْلِيقِهِ إِيَّاهَا بِأَحَايِينِهَا، وَإِخْفَائِهِ إِيَّاهَا فِي رُسُومِهَا، وَتَحَقُّقِ مَعْرِفَةِ الْعِلَلِ، وَيَسْلُكُ سَبِيلَ إِسْقَاطِ الْحَدَثِ، هَذَا تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، الَّذِي يَصْلُحُ بِعِلْمِ الْفَنَاءِ، وَيَصْفُو فِي عِلْمِ الْجَمْعِ، وَيَجْذِبُ إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ وَقَالَ فِي التَّوْحِيدِ الْأَوَّلِ يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ فَإِنَّ الثُّبُوتَ أَبْلَغُ مِنَ الصِّحَّةِ، وَالْحَقَائِقُ أَبْلَغُ مِنَ الشَّوَاهِدِ، وَيُرِيدُ بِالْحَقَائِقِ: الْمُكَاشَفَةَ وَالْمُشَاهَدَةَ، وَالْمُعَايَنَةَ، وَالِاتِّصَالَ وَالِانْفِصَالَ، وَالْحَيَاةَ، وَالْقَبْضَ وَالْبَسْطَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِسْمِ الْحَقَائِقِ مِنْ كِتَابِهِ.
وَبِالْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ يَصِحُّ التَّوْحِيدُ الْعَامُّ، وَبِالْحَقَائِقِ يَثْبُتُ التَّوْحِيدُ الْخَاصُّ.
قَوْلُهُ: وَهُوَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا: الْأَسْبَابَ الْمُشَاهَدَةَ الَّتِي تَظْهَرُ لَنَا، وَإِسْقَاطُهَا: هُوَ أَنْ لَا يَرَى لَهَا تَأْثِيرًا الْبَتَّةَ، وَلَا تَغْيِيرًا، وَإِنْ بَاشَرَهَا بِحُكْمِ الِارْتِبَاطِ الْعَادِيِّ، فَمُبَاشَرَتُهَا لَا تُنَافِي إِسْقَاطَهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ: الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالَ، وَإِسْقَاطُهَا: عَزْلُهَا عَنِ اقْتِضَائِهَا السَّعَادَةَ وَالنَّجَاةَ، لَا إِهْمَالُهَا وَتَعْطِيلُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَانْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَكِنْ يَقُومُ بِهَا وَقَدْ عَزَلَهَا عَنْ وِلَايَةِ النَّجَاحِ وَالنَّجَاةِ، كَمَا قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْمَلُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يُنْجِيَهُ عَمَلُهُ.
وَاحْتَرِزْ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْبَاطِنَةِ، كَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ، وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ مُعَلِّقَةٌ بِهَا، بَلِ التَّوْحِيدُ نَفْسُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ الْبَاطِنَةِ، فَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ.
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ؛ فَهُوَ غَيْرُ مُخْلِصٍ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْقَاطِ التَّعْطِيلُ وَالْإِهْمَالُ؛ فَمِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَزْلُ عَنْ وِلَايَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَإِسْنَادُ الْحُكْمِ إِلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ وَحْدَهُ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْأَسْبَابُ الَّتِي لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا الْعَبْدُ، فَلَيْسَ إِسْقَاطُهَا مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَا الْقِيَامُ بِهَا مُبْطِلًا لَهُ وَلَا مُنْقِصًا.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَيْسَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ مِنَ التَّوْحِيدِ، بَلِ الْقِيَامُ بِهَا وَاعْتِبَارُهَا وَإِنْزَالُهَا فِي مَنَازِلِهَا الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِيهَا هُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْقَوْلُ بِإِسْقَاطِ الْأَسْبَابِ هُوَ تَوْحِيدُ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ، أَتْبَاعِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فِي الْجَبْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ غَالِيًا فِيهِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا بِسَبَبٍ، وَلَا جَعَلَ فِي الْأَسْبَابِ قُوًى وَطَبَائِعَ تُؤَثِّرُ، فَلَيْسَ فِي النَّارِ قُوَّةُ الْإِحْرَاقِ، وَلَا فِي السُّمِّ قُوَّةُ الْإِهْلَاكِ، وَلَا فِي الْمَاءِ وَالْخُبْزِ قُوَّةُ الرِّيِّ وَالتَّغَذِّي بِهِ، وَلَا فِي الْعَيْنِ قُوَّةُ الْإِبْصَارِ، وَلَا فِي الْأُذُنِ وَالْأَنْفِ قُوَّةُ السَّمْعِ وَالشَّمِّ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحْدِثُ هَذِهِ الْآثَارَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ، لَا بِهَا، فَلَيْسَ الشِّبَعُ بِالْأَكْلِ، وَلَا الرِّيُّ بِالشُّرْبِ، وَلَا الْعِلْمُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا الِانْكِسَارُ بِالْكَسْرِ، وَلَا الْإِزْهَاقُ بِالذَّبْحِ، وَلَا الطَّاعَاتُ وَالتَّوْحِيدُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَلَا الشِّرْكُ وَالْكَفْرُ وَالْمَعَاصِي سَبَبًا لِدُخُولِ النَّارِ، بَلْ يُدْخِلُ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ أَصْلًا، وَيُدْخِلُ هَؤُلَاءِ النَّارَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ.
وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَهُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي التَّوَكُّلِ سَبَبًا، وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةً، بَلْ عِنْدَهُمْ صُدُورُ الْكَائِنَاتِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي عَنْ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي رَجَّحَتْ مَثَلًا عَلَى مَثَلٍ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَعَنْهَا يَصْدُرُ كُلُّ حَادِثٍ، وَيَصْدُرُ مَعَ الْحَادِثِ حَادِثٌ آخَرُ مُقْتَرِنًا بِهِ اقْتِرَانًا عَادِيًّا، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا سَبَبُ الْآخَرِ، وَلَا مُرْتَبِطٌ بِهِ، فَأَحَدُهُمَا مُجَرَّدُ عَلَامَةٍ وَأَمَارَةٍ عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدَ الْمُقْتَرِنَيْنِ وَجَدَ الْآخَرَ مَعَهُ، بِطَرِيقِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ فَقَطْ، لَا بِطْرِيقِ التَّسَبُّبِ وَالِاقْتِضَاءِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ نِهَايَةُ التَّوْحِيدِ وَغَايَةُ الْمَعْرِفَةِ.
وَطَرْدُ هَذَا الْمَذْهَبِ: مُفْسِدٌ لِلدُّنْيَا وَالدِّينِ، بَلْ وَلِسَائِرِ أَدْيَانِ الرُّسُلِ، وَلِهَذَا لَمَّا طَرَدَهُ قَوْمٌ أَسْقَطُوا الْأَسْبَابَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَعَطَّلُوهَا، وَجَعَلُوا وَجُودَهَا كَعَدَمِهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَابُدَّ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا، وَيُبَاشِرُوا مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَالْأَلَمَ.
فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: هَلَّا أَسْقَطْتُمْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: لِأَجْلِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: هَلَّا قُمْتُمْ بِمَا أَسْقَطْتُمُوهُ مِنَ الْأَسْبَابِ لِأَجْلِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ أَيْضًا، فَهَذَا الْمَذْهَبُ قَدْ فَطَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَيَوَانَ- نَاطِقَهُ وَأَعْجَمَهُ- عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَوْمٌ طَرَدُوهُ، فَتَرَكُوا لَهُ الْأَسْبَابَ الْأُخْرَوِيَّةَ، وَقَالُوا: سَبْقُ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لَا يَتَغَيَّرُ الْبَتَّةَ، فَسَوَاءٌ عَلَيْنَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، فَإِنْ سَبَقَ الْعِلْمُ وَالْحُكْمُ بِالشَّقَاوَةِ فَنَحْنُ أَشْقِيَاءُ، عَمِلْنَا أَوْ لَمْ نَعْمَلْ، وَإِنْ سَبَقَ بِالسَّعَادَةِ فَنَحْنُ سُعَدَاءُ، عَمِلْنَا أَوْ لَمْ نَعْمَلْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ الدُّعَاءَ جُمْلَةً، بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَيَقُولُ: الْمَدْعُوُّ بِهِ إِنْ سَبَقَ الْعِلْمُ وَالْحُكْمُ بِحُصُولِهِ حَصَلَ، دَعَوْنَا أَوْ لَمْ نَدْعُ، وَإِنْ سَبَقَ بِعَدَمِ حُصُولِهِ لَمْ يَحْصُلْ وَإِنْ دَعَوْنَا.
قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا الْأَصْلُ الْفَاسِدُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ، بَلْ وَمُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ إِسْقَاطِ الْأَسْبَابِ نَظَرًا إِلَى الْقَدَرِ؟ فَرَدَّ ذَلِكَ، وَأَلْزَمَ الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا، اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَكْدَحُ النَّاسُ فِيهِ الْيَوْمَ وَيَعْمَلُونَ: أَمْرٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى، أَمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِمَّا آتَاهُمْ فِيهِ الْحُجَّةُ؟ فَقَالَ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا؟ قَالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِعُمَرَ أَتَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟- يَعْنِي مِنَ الطَّاعُونِ- قَالَ: أَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّحَابِ {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقال تَعَالَى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وقال تَعَالَى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وقال تَعَالَى: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْأَسْبَابِ بِطُرُقٍ مُتَنَوِّعَةٍ، فَيَأْتِي بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ تَارَةً، وَبِاللَّامِ تَارَةً، وَبِأَنْ تَارَةً، وَبِكَيْ تَارَةً، وَيَذْكُرُ الْوَصْفَ الْمُقْتَضَى تَارَةً، وَيَذْكُرُ صَرِيحَ التَّعْلِيلِ تَارَةً، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا كَذَا، وَقَالُوا كَذَا، وَيَذْكُرُ الْجَزَاءَ تَارَةً، كَقوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} وقوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} وَيَذْكُرُ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ وَالْمَانِعَ مِنْهُ، كَقوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}.
وَعِنْدَ مُنْكِرِي الْأَسْبَابِ وَالْحُكْمِ: لَمْ يَمْنَعْهُ إِلَّا مَحْضُ مَشِيئَتِهِ لَيْسَ إِلَّا، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} وقال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} وقال: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} وقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وقال تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْقُرْآنُ- مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ- يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيَرُدُّهُ، كَمَا تُبْطِلُهُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ وَالْحِسُّ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الِالْتِفَاتُ إِلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ- أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا- تَغْيِيرٌ فِي وَجْهِ الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ: قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ، وَالتَّوَكُّلُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِنْ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَتَقْيِيدٍ، فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْأَسْبَابِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: شِرْكٌ، وَالْآخَرُ: عُبُودِيَّةٌ وَتَوْحِيدٌ، فَالشِّرْكُ: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهَا وَيَطْمَئِنَّ إِلَيْهَا، وَيَعْتَقِدَ أَنَّهَا بِذَاتِهَا مُحَصِّلَةٌ لِلْمَقْصُودِ، فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنِ السَّبَبِ لَهَا، وَيَجْعَلُ نَظَرَهُ وَالْتِفَاتَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَأَمَّا إِنِ الْتَفَتَ إِلَيْهَا الْتِفَاتَ امْتِثَالٍ وَقِيَامٍ بِهَا وَأَدَاءٍ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ فِيهَا، وَإِنْزَالِهَا مَنَازِلَهَا: فَهَذَا الِالْتِفَاتُ عُبُودِيَّةٌ وَتَوْحِيدٌ، إِذْ لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبِّبِ، وَأَمَّا مَحْوُهَا أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا: فَقَدْحٌ فِي الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْفِطْرَةِ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ: كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي الشَّرْعِ، وَإِبْطَالًا لَهُ، وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ: الْقِيَامُ بِالْأَسْبَابِ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْقَلْبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَاعْتِقَادُ أَنَّهَا بِيَدِهِ، فَإِنْ شَاءَ مَنَعَهَا اقْتِضَاءَهَا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا مُقْتَضِيَةً لِضِدِّ أَحْكَامِهَا، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ لَهَا مَوَانِعَ وَصَوَارِفَ تُعَارِضُ اقْتِضَاءَهَا وَتَدْفَعُهُ.
فَالْمُوَحِّدُ الْمُتَوَكِّلُ: لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْأَسْبَابِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، وَلَا يَرْجُوهَا وَلَا يَخَافُهَا، فَلَا يَرْكَنُ إِلَيْهَا، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا- بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُسْقِطُهَا وَلَا يُهْمِلُهَا وَيُلْغِيهَا- بَلْ يَكُونُ قَائِمًا بِهَا، مُلْتَفِتًا إِلَيْهَا، نَاظِرًا إِلَى مُسَبِّبِهَا سُبْحَانَهُ وَمُجْرِيهَا، فَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ- شَرْعًا وَعَقْلًا- إِلَّا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ سَبَبٌ تَامٌّ مُوجَبٌ إِلَّا مَشِيئَتَهُ وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي سَبَّبَ الْأَسْبَابَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْقُوَى وَالِاقْتِضَاءَ لِآثَارِهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ مِنْهَا سَبَبًا يَقْتَضِي وَحْدَهُ أَثَرَهُ، بَلْ لَابُدَّ مَعَهُ مِنْ سَبَبٍ يُشَارِكُهُ، وَجَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا تُضَادُّهَا وَتَمَانِعُهَا، بِخِلَافِ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَا فِي الْأَسْبَابِ الْحَادِثَةِ مَا يُبْطِلُهَا وَيُضَادُّهَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ يُبْطِلُ حُكْمَ مَشِيئَتِهِ بِمَشِيئَتِهِ، فَيَشَاءُ الْأَمْرُ ثُمَّ يَشَاءُ مَا يُضَادُّهُ وَيَمْنَعُ حُصُولَهُ، وَالْجَمِيعُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا الِالْتِجَاءُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا الْخَوْفُ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا الرَّجَاءُ إِلَّا لَهُ، وَلَا الطَّمَعُ إِلَّا فِي رَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ وَقَالَ لَا مَنْجَى وَلَا مَلْجَأَ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ.
فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ هَذَا التَّوْحِيدِ وَبَيْنَ إِثْبَاتِ الْأَسْبَابِ: اسْتَقَامَ قَلْبُكَ عَلَى السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَوَضُحَ لَكَ الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ حَقٌّ، وَهُوَ لَا يُنَافِي إِثْبَاتَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَقْتَضِي إِسْقَاطَهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ وَحَكَمَ: أَنَّ كَذَا وَكَذَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ كَذَا وَكَذَا، فَسَبَقَ الْعِلْمُ وَالْحُكْمُ بِحُصُولِهِ عَنْ سَبَبِهِ، فَإِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ خِلَافُ مُوجَبِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْحُدُوثِ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ: لَمْ يَكُنْ نَظَرُهُ وَشُهُودُهُ مُطَابِقًا لِلْحَقِّ، بَلْ كَانَ شُهُودُهُ غَيْبَةً، وَنَظَرُهُ عَمًى، فَإِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ قَدْ سَبَقَ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ بِأَسْبَابِهَا، فَكَيْفَ يَشْهَدُ الْعَبْدُ الْأُمُورَ بِخِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ؟
وَالْعِلَلُ الَّتِي تَتَّقِي فِي الْأَسْبَابِ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهَا، وَالثِّقَةُ بِهَا، وَرَجَاؤُهَا وَخَوْفُهَا، فَهَذَا شِرْكٌ يَرِقُّ وَيَغْلُظُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ.
الثَّانِي: تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا أَيْضًا قَدْ يَكُونُ كُفْرًا وَظُلْمًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ، بَلْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَأَنَّ السَّبَبَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ، وَلَا يَقْضِي وَلَا يَحْكُمُ، وَلَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ تَسْبِقْ لَهُ بِهِ الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ مَا سَبَقَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْعِلْمُ، فَيَأْتِي بِالْأَسْبَابِ إِتْيَانَ مَنْ لَا يَرَى النَّجَاةَ وَالْفَلَاحَ وَالْوُصُولَ إِلَّا بِهَا، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا لَا تُنْجِيهِ، وَلَا تُحَصِّلُ لَهُ فَلَاحًا، وَلَا تُوصِلُهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَيُجَرِّدُ عَزْمَهُ لِلْقِيَامِ بِهَا حِرْصًا وَاجْتِهَادًا، وَيُفْرِغُ قَلْبَهُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا، تَجْرِيدًا لِلتَّوَكُّلِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ يَقُولُ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِالْمُسَبِّبِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْعَجْزِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: تَقْصِيرٌ فِي الْأَسْبَابِ، وَعَدَمُ الْحِرْصِ عَلَيْهَا، وَتَقْصِيرٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَتَرْكُ تَجْرِيدَهَا، فَالدِّينُ كُلُّهُ- ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، شَرَائِعُهُ وَحَقَائِقُهُ- تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الصُّعُودُ عَنْ مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ حَقٌّ لَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ]:

قَوْلُهُ: وَالصُّعُودُ عَنْ مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ، هَذَا حَقٌّ، وَلَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ، فَمَا أَفْسَدَ أَدْيَانَ الرُّسُلِ إِلَّا أَرْبَابُ مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ، الَّذِينَ يُنَازِعُونَ بِمَعْقُولِهِمْ فِي التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ، وَإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتُوهُ، وَنَفْيِ مَا نَفَوْهُ، فَنَازَعَتْ عُقُولُهُمْ ذَلِكَ، وَتَرَكُوا لِتِلْكَ الْمُنَازَعَاتِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ثُمَّ عَارَضُوهُمْ بِتِلْكَ الْمَعْقُولَاتِ، وَقَدَّمُوهَا عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ، وَقَالُوا: إِذَا تَعَارَضَتْ عُقُولُنَا وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ: قَدَّمْنَا مَا حَكَمَتْ بِهِ عُقُولُنَا عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ، وَقَدْ هَلَكَ بِهَؤُلَاءِ طَوَائِفُ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، وَانْحَلُّوا بِسَبَبِهِمْ مِنْ أَدْيَانِ جَمِيعِ الرُّسُلِ.
قَوْلُهُ وَمِنَ التَّعَلُّقِ بِالشَّوَاهِدِ كَلَامٌ فِيهِ إِجْمَالٌ، فَالشَّوَاهِدُ: هِيَ الْأَدِلَّةُ وَالْآيَاتُ، فَتَرْكُ التَّعَلُّقِ بِهَا انْسِلَاخٌ عَنِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالتَّعَلُّقُ بِهَا وَحْدَهَا، دُونَ مَنْ نَصَّبَهَا شَوَاهِدَ وَأَدِلَّةً انْقِطَاعٌ عَنِ اللَّهِ، وَشِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَالتَّعَلُّقُ بِهَا اسْتِدْلَالًا، وَنَظَرًا فِي آيَاتِ الرَّبِّ، لِيَصِلَ بِهَا إِلَى اللَّهِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ.
وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ: أَنَّهُ يَصْعَدُ عَنِ الْوُقُوفِ مَعَهَا، فَإِنَّهَا وَسَائِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِالْوَسِيلَةِ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا حَقٌّ، لَكِنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا يُكَدِّرُ هَذَا الْمَعْنَى وَيُشَوِّشُهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الْوَاجِبُ: أَنْ يَشْهَدَ الْأَمْرَ كَمَا أَشْهَدَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَأَقَامَ الْبَرَاهِينَ وَأَظْهَرَ الْآيَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَشْهَدَ الْأَدِلَّةَ وَالْآيَاتِ، وَنَنْظُرَ فِيهَا وَنَسْتَدِلَّ بِهَا، وَلَا يَجْتَمِعُ هَذَا الْإِثْبَاتُ وَذَلِكَ النَّفْيُ الْبَتَّةَ، وَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا آيَاتٌ لِلتَّوْحِيدِ، وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْمَتْلُوَّةُ أَدِلَّةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَكَيْفَ لَا يَشْهَدُهَا دَلِيلًا عَلَيْهِ؟ هَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، بَلِ التَّوْحِيدُ- كُلُّ التَّوْحِيدِ- أَنْ يَشْهَدَ كُلَّ شَيْءٍ دَلِيلًا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّسُلَ أَدِلَّةٌ لِلتَّوْحِيدِ، فَكَيْفَ لَا يَشْهَدُهُمْ كَذَلِكَ؟ وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ بِهِمْ وَعَدَمُ شُهُودِهِمْ أَدِلَّةً لِلتَّوْحِيدِ؟
فَانْظُرْ مَاذَا أَدَّى إِلَيْهِ إِنْكَارُ الْأَسْبَابِ، وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ، فَهَذَا هُوَ مُقْتَضَاهُ وَطَرْدُهُ، وَإِلَّا تَنَاقَضَ أَصْحَابُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تَعَالَى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وَالْهَادِي: هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَدُلُّ بِهِمْ فِي الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِهَذَا وَهَذَا، فَرُسُلُهُ الْهُدَاةُ هِدَايَةَ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ، وَهُوَ الْهَادِي هِدَايَةَ التَّوْفِيقِ وَالْإِلْهَامِ، فَالرُّسُلُ هُمُ الْأَدِلَّةُ حَقًّا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُوَفِّقُ الْمُلْهِمُ، الْخَالِقُ لِلْهُدَى فِي الْقُلُوبِ.
قَوْلُهُ وَلَا فِي التَّوَكُّلِ سَبَبًا يُرِيدُ: أَنَّكَ تُجَرِّدُ التَّوَكُّلَ عَنِ الْأَسْبَابِ، فَإِنْ أَرَادَ تَجْرِيدَهُ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا: فَبَاطِلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَرَادَ تَجْرِيدَهُ عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفِ مَعَهَا، وَالْوُثُوقِ بِهَا: فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ أَرَادَ تَجْرِيدَهُ عَنْ شُهُودِهَا: فَشُهُودُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ أَكْمَلُ، وَلَا يُقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ بِوَجْهٍ مَا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةٌ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ حُصُولَ النَّجَاةِ بِمُجَرَّدِ الْوَسَائِلِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَسْبَابِ، وَأَمَّا إِلْغَاءُ كَوْنِهَا وَسَائِلَ: فَبَاطِلٌ، يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ، وَأَمَّا عَدَمُ شُهُودِهَا وَسَائِلَ، مَعَ اعْتِقَادِ كَوْنِهَا وَسَائِلَ: فَلَيْسَ بِكَمَالٍ، وَشُهُودُهَا وَسَائِلَ- كَمَا جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ- أَكْمَلُ مَشْهَدًا، وَأَصَحُّ طَرِيقَةً، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا- فِيمَا تَقَدَّمَ- أَنَّ الْكَمَالَ: أَنَّ تَشْهَدَ الْعُبُودِيَّةَ وَقِيَامَكَ بِهَا، وَتَشْهَدَ أَنَّهَا مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ وَالْفَضْلِ، وَتَشْهَدَ الْمَعْبُودَ، فَلَا تَغِيبُ بِشُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ أَمْرِهِ، وَلَا تَغِيبُ بِشُهُودِ أَمْرِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَلَا تَغِيبُ بِشُهُودِهِ وَشُهُودِ أَمْرِهِ عَنْ شُهُودِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَشُهُودِ فَقْرِكَ وَفَاقَتِكَ، وَأَنَّكَ بِهِ لَا بِكَ، وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا، وَهَدَانَا بِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: آللَّهِ، مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: لَا تَشْهَدُوا فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةً، بَلْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ مُبَاهَاةِ اللَّهِ بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ: شُهُودُهُمْ سَبَبَ التَّوْحِيدِ، وَوَسِيلَةَ النَّجَاةِ، وَأَنَّهَا مِنْ مَنِّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فَكَيْفَ يَكُونُ كَمَالُهُمْ فِي أَنْ لَا يَشْهَدُوا الدَّلِيلَ الَّذِي يُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيَهْدِيهِمْ؟ وَيُسْقِطُونَهُ مِنَ الشُّهُودِ وَالسَّبَبِيَّةِ؟
قَوْلُهُ: فَيَكُونُ شَاهِدًا سَبْقَ الْحَقِّ بِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ، وَوَضْعِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَتَعْلِيقِهِ إِيَّاهَا بِأَحَايِينِهَا، وَإِخْفَائِهِ إِيَّاهَا فِي رُسُومِهَا.
لَيْسَ الشُّهُودُ هَاهُنَا مَتَعَلِّقًا بِمُجَرَّدِ أَزَلِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَتَقَدُّمِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَقَطْ، بَلْ مُتَعَلِّقٌ بِسَبْقِ الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ، فَيَرَى الْأَشْيَاءَ بِعَيْنِ سَوَابِقِهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هُنَاكَ فِي عِلْمِ الرَّبِّ وَتَقْدِيرِهِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا هُنَاكَ إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا هُنَا، فَيَتَجَاوَزُ نَظَرُهُ نَظَرَهُمْ، فَيَغْلِبُ شُهُودُ السَّوَابِقِ عَلَى مُلَاحَظَةِ اللَّوَاحِقِ، فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ وَحْدَهُ، حَيْثُ لَا مَوْجُودَ سِوَاهُ، وَقَدْ عَلِمَ الْكَائِنَاتِ وَقَدَّرَ مَقَادِيرَهَا، وَوَقَّتَ مَوَاقِيتَهَا، وَقَرَّرَهَا عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ الْعِلْمُ الْمَعْلُومَ، وَالْقَدَرُ الْمَقْدُورَ وَالْإِرَادَةُ الْمُرَادَ، فَيَرَى الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا ثَابِتَةً فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحِكْمَتِهِ قَبْلَ وُجُودِ الْعَوَالِمِ، فَأَيُّ وَسِيلَةٍ يَشْهَدُ هُنَاكَ؟ وَأَيُّ سَبَبٍ؟ وَأَيُّ دَلِيلٍ هَذَا الَّذِي يُدَنْدِنُ الشَّيْخُ حَوْلَهُ؟ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْحُكْمَ سَبَقَ بِوُجُودِ الْمُسَبِّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا وَارْتِبَاطِهَا بِوَسَائِلِهَا وَأَدِلَّتِهَا، كَمَا سَبَقَ الْعِلْمُ وَالْحُكْمُ بِوُجُودِ الْوَلَدِ عَنْ أَبَوَيْهِ، وَالْمَطَرِ عَنِ السَّحَابِ، وَالنَّبَاتِ عَنِ الْمَاءِ، وَالْإِزْهَاقِ عَنِ الْقَتْلِ، وَأَسْبَابِ الْمَوْتِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمُشَاهَدَةُ الصِّحِّيَّةُ، لَا إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ وَالْأَدِلَّةِ.
قَوْلُهُ: وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا، وَتَعْلِيقَهَا بِأَحَايِينِهَا، وَإِخْفَائِهَا فِي رُسُومِهَا، هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ- الْمَكَانُ، وَالزَّمَانُ، وَالْمَادَّةُ- الَّتِي لَابُدَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْهَا، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ لَابُدَّ لَهُ مِنْ زَمَانٍ يُوجَدُ فِيهِ، وَمَكَانٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَمَادَّةٍ يُوجَدُ بِهَا، فَأَشَارَ إِلَى الثَّلَاثَةِ، فَالْمَوَاضِعُ: الْأَمْكِنَةُ، وَالْأَحَايِينُ: الْأَزْمِنَةُ، وَالرُّسُومُ: الْمَوَادُّ الْحَامِلَةُ لَهَا، وَالرُّسُومُ: هِيَ الصُّورَةُ الْخَلْقِيَّةُ.
وَكَأَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ أَرَادَ بِهَا هُنَا الْأَسْبَابَ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ غَطَّى حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ عَنْ أَبْصَارِ الْخَلْقِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ تَعَلُّقِ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، فَنَسَبُوهَا إِلَيْهَا، فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَشْهَدُ كَيْفَ أَظْهَرَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَادِّهَا وَصُوَرِهَا وَأَظْهَرَهَا بِأَسْبَابِهَا، وَأَخْفَى عِلْمَهُ وَحُكْمَهُ فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَالظُّهُورُ: لِلْأَسْبَابِ الْمُشَاهَدَةِ، وَالْحَقِيقَةُ الْمَخْفِيَّةُ لِلْعِلْمِ وَالْحُكْمِ السَّابِقَيْنِ.
قَوْلُهُ وَتُحَقِّقُ مَعْرِفَةَ الْعِلَلِ يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ يُحَقِّقُ لِصَاحِبِهِ مَعْرِفَةَ عِلَلِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَوَائِقَ السَّالِكِ: مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السِّوَى، وَالْتِفَاتِهِ إِلَيْهِ، فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ التَّوْحِيدِ- عِنْدَهُ- تُحَقِّقُ هَذِهِ الْعِلَلَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْعِلَلِ الْأَسْبَابَ الَّتِي رَبَطَتْ بِهَا الْأَحْكَامَ، فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا وَمَرْتَبَتَهَا كَمَا هِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَعَدَ مِنْهَا إِلَى مُسَبِّبِهَا وَوَاضِعِهَا.
قَوْلُهُ: وَيَسْلُكُ سَبِيلَ إِسْقَاطِ الْحَدَثِ.
يُرِيدُ: أَنَّهُ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ الْمَذْكُورَةِ: سَالِكُ سَبِيلِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَيْنَ الْأَزَلِ، فَنَفَى عَنْهُمْ شُهُودَ الْحَدَثِ، وَذَلِكَ بِالْفَنَاءِ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي يَفْنَى فِيهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَيَبْقَى فِيهَا مَنْ لَمْ يَزَلْ.
فَإِنْ أَرَادَ بِإِسْقَاطِ الْحَدَثِ: أَنَّهُ يَعْتَقِدُ نَفْيَ حُدُوثِ شَيْءٍ، فَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ وَالشُّهُودِ، وَإِنْ أَرَادَ إِسْقَاطَ الْحَدَثِ مِنْ قَلْبِهِ، فَلَا يَشْهَدُ حَادِثًا وَمُحْدِثًا- وَهَذَا مُرَادُهُ- فَهَذَا خِلَافُ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ، وَخِلَافُ الْحَقِّ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ أَنْ يَشْهَدَ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَشْهَدَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ حَقٌّ، وَالنَّبِيِّينَ حَقٌّ، وَيَشْهَدَ حُدُوثَ الْمُحْدَثَاتِ بِإِحْدَاثِ الرَّبِّ تَعَالَى لَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَبِمَا خَلَقَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلِمَا خَلَقَهُ مِنَ الْحِكَمِ، وَلَمْ يَأْمُرِ الْعَبْدَ- بَلْ لَمْ يُرِدْ مِنْهُ- أَنْ لَا يَشْهَدَ حَادِثًا وَلَا حُدُوثَ شَيْءٍ، وَهَذَا لَا كَمَالَ فِيهِ، وَلَا مَعْرِفَةَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ الْعَارِفِ، وَأَنْ يَكُونَ تَوْحِيدَ الْخَاصَّةِ، وَالْقُرْآنُ- مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ- صَرِيحٌ فِي خِلَافِهِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِشُهُودِ الْحَادِثَاتِ وَالْكَائِنَاتِ، وَالنَّظَرِ فِيهَا، وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَعَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَأَعْرَفُ النَّاسِ بِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَعْظَمُهُمْ شُهُودًا لَهَا، وَنَظَرًا فِيهَا، وَاعْتِبَارًا بِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ لُبُّ التَّوْحِيدِ وَقَلْبُهُ وَسِرُّهُ: إِسْقَاطَهَا مِنَ الشُّهُودِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا يُرِيدُ إِسْقَاطَهَا مِنِ الْتِفَاتِ الْقَلْبِ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفِ مَعَهَا.
قُلْتُ: هَذَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الدَّرَجَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْإِسْقَاطُ إِمَّا لَعَيْنِ الْوُجُودِ، أَوْ لِعَيْنِ الشُّهُودِ، أَوْ لِعَيْنِ الْمَقْصُودِ، فَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ، وَالثَّانِي: نَقْصٌ، وَالثَّالِثُ: حَقٌّ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الشَّيْخِ، فَتَأَمَّلْهُ.
وَقَوْلُهُ: وَفَنِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ، إِنْ أَرَادَ بِهِ فَنَاءَ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ فَنِيَ مِنَ الشُّهُودِ، فَهَذَا نَقْصٌ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ- كَمَا تَقَرَّرَ- وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَفْنَى فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى وَقَصْدِهِ وَمَحَبَّتِهِ.
قَوْلُهُ: هَذَا تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، الَّذِي يَصِحُّ بِعِلْمِ الْفَنَاءِ، وَيَصْفُو فِي عِلْمِ الْجَمْعِ، وَيَجْذِبُ إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ، يَعْنِي: تَوْحِيدَ الْمُتَوَسِّطِينَ الَّذِينَ ارْتَفَعُوا عَنِ الْعَامَّةِ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى مَنْزِلَةِ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ.
قَوْلُهُ يَصِحُّ بِعِلْمِ الْفَنَاءِ وَلَمْ يَقُلْ: بِحَقِيقَةِ الْفَنَاءِ؛ لِأَنَّ دَرَجَةَ الْعِلْمِ فِي هَذَا السُّلُوكِ قَبْلَ دَرَجَةِ الْحَالِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ مُتَوَسِّطٍ لَمْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ، وَحَالُ الْفَنَاءِ لِصَاحِبِ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَيَصْفُو فِي عِلْمِ الْجَمْعِ فَإِنَّ عِلْمَ الْجَمْعِ قَبْلَ حَالِ الْجَمْعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ.
قَوْلُهُ وَيَجْذِبُ إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ يَجْذِبُ أَهْلَهُ إِلَى تَوْحِيدِ الْفَرِيقِ الثَّانِي الَّذِينَ هُمْ فَوْقَهُمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْجَمْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجَمْعِ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الشِّفَاءُ.
وَنَحْنُ الْآنَ ذَاكِرُونَ حَقِيقَتَهُ وَأَقْسَامَهُ، وَالصَّحِيحَ مِنْهُ وَالْمَعْلُولَ أَيِ الْجَمْعَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
الْجَمْعُ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ، وَالِاجْتِمَاعُ الِانْضِمَامُ، وَالتَّفْرِيقُ: ضِدُّهُ، وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ: فَهُوَ شُخُوصُ الْبَصِيرَةِ إِلَى مَنْ صَدَرَتْ عَنْهُ الْمُتَفَرِّقَاتُ كُلُّهَا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ الْجَمْعُ: جَمْعُ وُجُودٍ، وَهُوَ جَمْعُ الزَّنَادِقَةِ مِنْ أَهْلِ الِاتِّحَادِ، وَجَمْعُ شُهُودٍ، وَجَمْعُ قُصُودٍ، فَإِذَا تَحَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ تَحَرَّرَ الْجَمْعُ الصَّحِيحُ مِنَ الْفَاسِدِ.
وَكَذَلِكَ يَنْقَسِمُ الْفَرْقُ إِلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، أَعْنِي إِلَى مَطْلُوبٍ فِي السُّلُوكِ وَقَاطِعٍ عَنِ السُّلُوكِ، فَالْفَرْقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، فَرْقٌ طَبِيعِيٌّ حَيَوَانِيٌّ، وَفَرْقٌ إِسْلَامِيٌّ، وَفَرْقٌ إِيمَانِيٌّ، هَذِهِ سِتَّةُ أَقْسَامٍ لِلْجَمْعِ وَلِلْفَرْقِ.
فَنَذْكُرُ أَنْوَاعَ الْفَرْقِ أَوَّلًا، إِذْ بِهَا تَعْرِفُ أَنْوَاعَ الْجَمْعِ.
فَأَمَّا الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ وَالْحَيَوَانِيُّ: فَهُوَ التَّفْرِيقُ بِمُجَرَّدِ الطَّبْعِ وَالْمَيْلِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ بِطَبْعِهِ وَهَوَاهُ، وَهَذَا فَرْقُ الْحَيَوَانَاتِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ بَنِي آدَمَ، فَالْمِعْيَارُ مَيْلُ طَبْعِهِ، وَنَفْرَةُ طَبْعِهِ، وَالْمُشْرِكُونَ وَالْكُفَّارُ وَأَهْلُ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاقِفُونَ مَعَ هَذَا الْفَرْقِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ الْإِسْلَامِيُّ: فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ، وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَكَرِهَهُ وَمَقَتَ فَاعِلَهُ، وَهَذَا الْفَرْقُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْإِسْلَامِ الْبَتَّةَ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أَهْلِ الْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ: أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا هَذَا الْفَرْقَ، فَشَهِدُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ إِذْ قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالُوا: الْمَيْتَةُ مِثْلُ الْمُذَكَّاةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالُوا: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَهَذَا جَمْعُهُمْ وَذَاكَ فَرْقُهُمْ، فَهَذَا فَرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ.